• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أُسس الدولة المدنية في العراق

د. علاء إبراهيم الحسيني

أُسس الدولة المدنية في العراق

 العراق دولة تتميّز بالتنوع الأثنيوالإيدلوجي والفكري بشكل واسع فلا تكاد توجد مدينة أو قرية تخلو من انتماءات متباينة، ويُعدّ الاختلاف بين بني البشر سنة إلهيّة حيث قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13)، فالتنوّع نِعمة من نِعَم الله تعالى اختص بها الإنسانية عموماً والعراق خصوصاً، فلابدّ من احترام التنوّع والحفاظ على كلّ الهويّات الفرعية بالانطلاق نحو الأُسس المشتركة لتنميتها ومن خلالها يمكن المحافظة على الدولة ومصالح الشعب العامّة، والدولة المدنية هي أحد أهم الخطوات التي يمكن أن توصلنا إلى الغاية التي تتمثّل بالتعايش السلمي بين مكونات الشعب كافة وتحويل حالة الاختلاف في الهويّات إلى طاقة إيجابية من شأنها أن تسهم في بناء البلد.

 من هنا كان واجباً على المؤسّسات العامّة والخاصّة الممثلة بالسلطات الفاعلة في الشأن العامّ لاسيّما التشريعية والتنفيذية والنقابات والاتحادات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والجهات الدينية والثقافية والعشائرية أن تؤمن بمشروع الدولة المدنية بوصفه الخيار الإستراتيجي، وهذا المشروع من شأنه أن يحلحل كلّ الأزمات والمشكلات ويضع لها الحلول الجذرية فلا نحتاج إلى الإلغاء أو الإقصاء، بل اعتماد سياسة التقريب والتركيز على نقاط مشتركة، ولسنا بذلك بعيدين عن التطبيقات الإسلامية الرائدة في هذا الخصوص، فأمير المؤمنين عليّ (ع) حين آلت إليه الخلافة لم يتوانَ في التأسيس لدولة تفصل بين المتطلّبات الأساسية للحياة الحرّة الكريمة وبين الاختلافات أو الهويّات الثانوية، بدليل إنّ الإمام عليّ (ع) لم يشكّل على بعض عمّاله اختلافهم العقائدي معه بل كان ينظر إلى الجانب المنير من سيرتهم وتفوقهم على مَن سواهم في العمل الإداري والقضائي نذكر من هؤلاء زياد ابن أبيه وشريح القاضي وغيرهما، فقد ولّى الأوّل على البصرة وخراسان وأبقى الثاني كقاضي للقُضاة في العاصمة الكوفة ولم يعزلا من منصبهما طيلة خلافته التي امتدت قرابة (5) سنوات بل بقيا كونهما يحملان مؤهلات معيّنة بينما عثمان ابن حنيف رغم انتمائه العقائدي لم يسلم من الإقالة من المنصب كونه لم يتمكن من إدارة الشأن العام بما يتفق مع المصلحة العامّة ومقاصد الشرع في الرئاسة، وهكذا نجد أنّ الأديان الأُخرى والعقائد المخالفة لما يتبنّاه الإمام عليّ كالخوارج كانوا يعيشون بأمن وأمان بين الناس بلا تمييز وكان الإمام يحرص على مساواتهم مع الناس في العطاء.

إنّ العلاقة بين الدولة والفرد قانونية تنظيمية أي ينظّمها القانون ويرسم المشرع الدستوري أُسس هذه العلاقة التي تتميّز بالاستمرار والتفاعل المتبادل، إذ يؤسّس الفرد بمعية الآخرون سلطات الدولة بالاختيار (الانتخابات) وتتولّى هذه المؤسّسات نيابة عنه الإشراف والإدارة للمال العام وتسعى إلى تحقيق المصلحة العامّة فينبغي أن نضع نصب أعيُننا أهميّة التأسيس لدولة مدنية محايدة، والأخيرة لا تساوي إلّا ما يساويه موظفوها والعاملون فيها وهم من فئات المجتمع جميعاً.

 وللوصول لما تقدّم لابدّ من التأسيس لأُسس محدّدة تجعل الفرد يشعر أنّ انتمائه للدولة نابع من شعور داخلي متأصل وأنّه جزء من مجتمع متنوّع وعليه أن يؤدِّي واجباته كاملة ليحصل على حقوقه كاملة بعيداً عن التفكير بأي تمييز ولأي سبب كان، ويمكننا أن نحدّد بعض هذه الأُسس ونعرض لها بالآتي:

الأُسس القانونية:

1- سيادة القانون: فأساس نظام الحكم في الدولة يبنى على وفق سيادة حكم القانون على الجميع وبلا استثناء.

2- احترام الإرادة الشعبية بوصفها المعبّر عن ضمير الأُمّة وهذا يتحقّق من خلال قانون انتخابي عادل وممارسة ديمقراطية انتخابية حرّة ونزيهة.

3- السعي لوضع منظومة قانونية متفقه في جزيئياتها مع الدستور ومترجمة لفلسفته الكلّية المتعلّقة بالمجتمع ومؤسّسات الدولة، وهذا لا يتحقّق إلّا من خلال إعادة النظر بكلّ التشريعات النافذة التي تعرقل الانتقال التام باتجاه المجتمع المدني.

4- استكمال المؤسّسات العامّة الضامنة لسيادة حكم القانون وإرادة الشعب كمجلس الاتحاد، والمحكمة الاتحادية العليا.

5- الانتقال السلس نحو نظام عدم تركيز السلطة الاتحادية في العاصمة بنقل القدرة على البت النهائي في المسائل واتّخاذ القرارات من خلال ممثلي تلك السلطة في المحافظات وتفعيل النظام اللامركزي بما يمثّله من محاولة حقيقية لترسيخ التداول السلمي للسلطة وترسيخاً للمبادئ الديمقراطية على المستوى المحلي.

6- احترام حقوق وحرّيات الشعب العراقي كافة وفق ما رسم الدستور وكلّ الإعلانات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة والعمل على ترسيخها نهجاً وتطبيقاً من خلال ما يصدر من تشريعات وقرارات يومية.

7- حياد المؤسّسات العامّة والخاصّة التام تجاه المواطن العراقي والتعامل معه بهذه الصفة فقط، والنأي بهذه المؤسّسات عن التحزّب والهيمنة من قبل شخصيات تتّخذها واجهة للعمل السياسي أو الحزبي.

8- تأكيد أهميّة الدور المحوري للسلطة القضائية بوصفها الحارس الأمين للحقوق والحريات والسلطة الوحيدة القادرة على الوقوف بوجه السلطتين التشريعية والتنفيذية وإلغاء أعمالهما المخالفة للدستور وللمشروعية.

9- التأكيد على الدور التكاملي بين السلطات الرسمية وغير الرسمية بضمنها المنظمات غير الحكومية التي تضطلع بدور الرقابة والمتابعة اليومية لأعمال السلطات العامّة وتنبيه الرأي العامّ إلى المخالفات التي ترتكب من قبل ممثليها وموظفيها.

10- اعتماد الشفافية والعدالة في سن قانون الموازنة وإشراك الفعاليات المحلية والحكومات اللامركزية بصياغة السياسة العامّة والخطط العامّة بما يضمن لها التنفيذ السريع والفاعل لمعالجة المشاكل والتحدّيات التي تواجه الدولة والشعب بمختلف مكوناته.

الأُسس الاقتصادية:

1- إصلاح الاقتصاد العراقي وفق ما أمر به الدستور العراقي في المادّة الخامسة والعشرون وفق أُسس اقتصاد السوق وتشجيع الاستثمار مع توفير الضمان الاجتماعي والصحّي للمواطنين من الفئات الأكثر ضعفاً كالأرامل والأيتام والعجزة وغيرهم.

2- إصلاح النظام الوظيفي في العراق في ضوء سياسة أشمل تتمثّل بإصلاح الاقتصاد العراقي ككلّ، وتشجيع القطاع الخاص ليأخذ زمام المبادرة بإقرار ضمانات متماثلة للعاملين في القطاعين العامّ والخاصّ وتشجيع الأخير على استيعاب الأيدي العاملة للقضاء على البطالة.

3- التنمية المتوازنة لجميع أنحاء العراق بتأسيس مجالس إعمار أو تشكيل لجان ذات صلاحيات حقيقية تعمل بالتعاون مع الهيأة الوطنية لضمان حقوق الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (26) لسنة 2016، وتفعيل دور هذه الهيئة لضمان توزيع عادل وشفاف للإيرادات الاتّحادية في العراق.

4- التوازن في بناء الموازنات العامّة في العراق وإعطاء الأولوية للتنمية البشرية والمادّية باعتماد سياسة استثمارية تمهد لتقليل الإنفاق العسكري وتحويله تدريجياً إلى الإنفاق التعليمي والصحّي والخدمي.

5- الحدّ من سياسة الاقتراض والتوسع في سياسة الاستثمار.

6- إعطاء المحافظات والأقاليم دور اقتصادي واضح يمكنها من أخذ المبادرة لتنمية مواردها الذاتية وتحويلها نحو المصلحة العامّة.

7- التأكيد على أهميّة تفعيل الجهات الرقابية مثل جهاز التقييس والسيطرة النوعية، التي تراقب السلع والخدمات المستوردة قبل أن تصل ليد المستهلك العراقي لمنع الغش والتدليس وتبديد ثروة الفرد العراقي.

الأُسس المتصلة بالسياسة الخارجية:

1- اعتماد سياسة خارجية محايدة ومتوازنة بعيدة كلّ البُعد عن الانحياز لأي طرف على حساب الأطراف الدولية الأُخرى ولأي سبب كان والنأي بالنفس عن سياسة وثقافة المحاور، بالاعتماد على سياسة حُسن الجوار والتعامل المتكافئ على أساس المصالح المتبادلة والاحترام التام للسيادة.

2- العمل على المستوى الدولي وفق ما رسمته القواعد القانونية لاسيّما ما ورد بالدستور من أنّ العراق بلد مؤسّس لجامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها والأمر ينسحب إلى منظمة الأُمم المتحدة وغيرها من المنظمات والاتفاقيات التي من شأنها أن ترسخ حلحلة المشاكل بالطُّرق السلمية والابتعاد عن القوّة أو التهديد بالقوّة في العلاقات الدولية.

الأُسس الاجتماعية:

1- ترسيخ مبدأ المساواة بين العراقيين على جميع الأصعدة.

2- ترسيخ مبدأ تكافؤ الفرص في التعليم والتعيين في الوظائف العامّة لاسيّما الوظائف العليا والخاصّة التي تتولّى الحكومة أو مجلس النواب اختيار شاغليها وأن يكون الاختيار بمنأى عن الحزبية والانحياز لأي معيار سوى الكفاءة.

3- العمل على صيانة كرامة الشعب العراقي لاسيّما الفئات الفقيرة بإعادة النظر بالبطاقة التموينية التي يفضّل نقلها إلى المحافظات بالتنسيق مع الجهات الاتحادية وإخضاعها لنظام رقابي يمنع الفساد من التغلغل والتربح على حساب لقمة عيش العراقيين، والتأسيس لنظام تكافل اجتماعي حقيقي وتوفير الضمان للعراقيين.

4- الاعتراف بأنّ الأُسرة العراقية هي نواة المجتمع وهي اللبنة الأساسية قوامها الدِّين والأخلاق والقيم الإنسانية والوطنية، وعلى الدولة المحافظة على الأُسرة ودرء كلّ ما يمكن أن يتهدّدها.

الأُسس الإدارية:

1- سنّ قانون يبيّن الوصف الوظيفي لكلّ الوظائف العامّة في العراق لمعرفة الوظائف الفائضة عن الحاجة والاستغناء عن الوظائف المتشابهة والمكرّرة في الوزارات بما يسهم في الحدّ من الترهل الوظيفي ويقلل من الهدر في المال العامّ.

2- إعادة صياغة القوانين الخاصّة بالخدمة والانضباط وهجر ثقافة الاحتكام للرئيس الإداري وتقوية مركزه نحو وضع الضمانات القانونية الكفيلة باطمئنان الموظف على مستقبله بالاحتكام للقانون والقضاء.

3- إعادة النظر بالوزارات والهيئات العامّة في ضوء النظام الاقتصادي الحرّ في العراق وبما يمنح المحافظات والإدارات المحلية سلطات حقيقة من شأنها أن تسهم في تحرير المواطن العراقي من النظام البيروقراطي القديم.

4- النص صراحة على مبدأ حياد الوظيفة والموظف العامّ، ومنع العمل الحزبي داخل المؤسّسات العامّة ومنع استغلال الوزراء أو الرؤساء الإداريين لمناصبهم لتحقيق منافع سياسية بأي طريق بإيراد نصوص صريحة بمنع ذلك في قانون الأحزاب رقم (36) لسنة 2015.

5- ضرورة إجراء إصلاحات من شأنها أن تنأى بالسفارات والقنصليات العراقية عن العمل الفئوي أو الحزبي والتوجه نحو العمل المهني المستهدف لمصلحة العراق فحسب.

6- تفعيل قانون مجلس الخدمة العامّة الاتحادي رقم (4) لسنة 2009 المعدل المعطل منذ العام 2009 ولغاية الآن وحصر صلاحية التعيين وإعادة التعيين وسائر شؤون الوظيفة بالمجلس وإخراجها من يد الوزراء الذين طالما استغلوها لغايات انتخابية.

7- إعادة النظر بسلم الرواتب وتحقيق العدالة التي ابتغاها الدستور والشرع المقدس بين فئات الموظفين المختلفة، وأن ينسحب ذلك على المتقاعدين بالاحتكام لسنوات الخدمة والأعباء العائلية.

ارسال التعليق

Top